فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الفخر:

فإن قيل: ظاهر هذا الكلام يقتضي تخصيص هذا التكليف بالمتقين دون غيرهم.
فالجواب: من وجهين الأول: أن المراد بقوله: {حَقّا عَلَى المتقين} أنه لازم لمن آثر التقوى، وتحراه وجعله طريقة له ومذهبًا فيدخل الكل فيه الثاني: أن هذه الآية تقتضي وجوب هذا المعنى على المتقين والإجماع دل على أن الواجبات والتكاليف عامة في حق المتقين، وغيرهم، فبهذا الطريق يدخل الكل تحت هذا التكليف؛ فهذا جملة ما يتعلق بتفسير هذه الآية. اهـ.

.قال أبو حيان:

{والأقربين} جمع الأقرب، وظاهره أنه أفعل تفضيل، فكل من كان أقرب إلى الميت دخل في هذا اللفظ، وأقرب ما إليه الوالدان، فصار ذلك تعميمًا بعد تخصيص، فكأنهما ذكرًا مرتين: توكيدًا وتخصيصًا على اتصال الخير إليهما، هذا مدلول ظاهر هذا اللفظ، وعند المفسرين: الأقربون الأولاد، أو من عدا الأولاد، أو جميع القرابات، أو من لا يرث من الأقارب. اهـ.

.قال ابن عادل:

قوله: {بالمعروف}: يجوز فيه وجهان:
أحدهما: أن يتعلَّق بنفس الوصيَّة.
والثاني: أن يتعلَّق بمحذوفٍ على أنَّه حالٌ من الوصيَّة، أي: حال كونها ملتبسة بالمعروف، لا بالجور.
فصل:
يحتمل أن يكون المراد منه قدر ما يوصى به، فيسوَّى بينهم في العطيَّة، ويحتمل أن يكون المراد من المعروف ألاَّ يعطي البعض، ويحرم البعض؛ كما إذا حرم الفقير، وأوصى للغنيِّ، لم يكن ذلك معروفًا، ولو سوَّى بين الوالدين مع عظم حقهما، وبين بني العمِّ، لم يكن معروفًا، فالله تعالى كلَّفه الوصيَّة؛ على طريقة جميلة خالية عن شوائب الإيحاش، ونقل عن ابن مسعود: أنه جعل هذه الوصيَّة للأفقر فالأفقر من الأقرب.
وقال الحسن البصريُّ: هم والأغنياء سواء.
وروي عن الحسن أيضًا، وجابر بن زيدٍ، وعبد الملك بن يعلى: أنهم قالوا فيمن يوصى لغير قرابته، وله قرابةٌ لا ترثه، قالوا: نجعل ثُلثي الثُّلث لذوي قرابته، وثلث الثُّلث للموصى له، وتقدَّم النَّقل عند طاوس أنَّ الوصيَّة تنزع من الأجنبيِّ، وتعطى لذوي القرابة.
وقال بعضهم: قوله: {بالمعروف}: هو ألاَّ يزيد على الثُّلث، روي عن سعد بن مالك، قال: جاءني النبيُّ صلى الله عليه وسلم يعودني، فقلت: يا رسول الله، قد بلغ بي من الوجع ما ترى، وأنا ذو مالٍ، ولا يرثني إلاَّ ابنتي، فأوصي بثلثي مالي؟ وفي روايةٍ: أُوصِي بِمَالِي كُلِّه قال: «لا»، قُلْتُ: بالشَّطْر؛ قال: «لا»، قلت فالثُّلُث، قال: «الثُّلُثُ، والثُّلُثُ كثير؛ إنك إن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالةً يتكفَّفون الناس».
وقال عليٌّ: لأن أوصي بالخمس أحبُّ إليَّ من أن أوصي بالربع، ولأن أوصي بالربع أحبُّ إليَّ من أن أوصي بالثُّلثن فلم أوصي بالثُّلث، فلم يترك.
وقال الحسن: نوصي بالسُّدس، أو الخمس، أو الرُّبع.
وقال الفارسيُّ: إنما كانوا يوصون بالخمس والرُّبع.
وذهب جمهور العلماء إلى أنه لا يجوز أن يوصي بأكثر من الثُّلث، إلاَّ أصحاب الرأي، فإنهم قالوا: إن لم يترك الوصيُّ ورثةً، جاز له أن يوصي بماله كله.
وقالوا: إنَّما جاز الاقتصارعلى الثُّلث في الوصيَّة؛ لأجل أن يدع ورثته أغنياء. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {حَقًّا} أي: ثابتًا ثبوت نظرٍ، وتحصين، لا ثبوت فرضٍ ووجوبٍ؛ بدليل قوله: {عَلَى المتقين} وهذا يدل على كونه مندوبًا؛ لأنه لوكان فرضًا، لكان على جميع المسلمين، فلما خصَّ الله تعالى المُتَّقِي، وهو من يخاف التَّقصير، دلَّ على أنه غير لازم لغيره. اهـ.

.قال الجصاص:

وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْوَصِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هَلْ كَانَتْ وَاجِبَةً أَمْ لَا؟ فَقَالَ قَائِلُونَ: إنَّهَا لَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً، وَإِنَّمَا كَانَتْ نَدْبًا وَإِرْشَادًا.
وَقَالَ آخَرُونَ: قَدْ كَانَتْ فَرْضًا ثُمَّ نُسِخَتْ عَلَى الِاخْتِلَافِ مِنْهُمْ فِي الْمَنْسُوخِ مِنْهَا، وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ: إنَّهَا لَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً بِأَنَّ فِي سِيَاقِ الْآيَةِ وَفَحْوَاهَا دَلَالَةٌ عَلَى نَفْيِ وُجُوبِهَا، وَهُوَ قَوْلُهُ: {الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ} فَلَمَّا قِيلَ فِيهَا {بِالْمَعْرُوفِ} وَإِنَّهَا عَلَى الْمُتَّقِينَ دَلَّ عَلَى أَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: قوله: {بِالْمَعْرُوفِ} لَا يَقْتَضِي الْإِيجَابَ، وَالْآخَرُ: قوله: {عَلَى الْمُتَّقِينَ} وَلَيْسَ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْمُتَّقِينَ، الثَّالِثُ: تَخْصِيصُهُ لِلْمُتَّقِينَ بِهَا وَالْوَاجِبَاتُ لَا يَخْتَلِفُ فِيهَا الْمُتَّقُونَ، وَغَيْرُهُمْ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَلَا دَلَالَةَ فِيمَا ذَكَرَهُ هَذَا الْقَائِلُ عَلَى نَفْيِ وُجُوبِهَا؛ لِأَنَّ إيجَابَهَا بِالْمَعْرُوفِ لَا يَنْفِي وُجُوبَهَا؛ لِأَنَّ الْمَعْرُوفَ مَعْنَاهُ الْعَدْلُ الَّذِي لَا شَطَطَ فِيهِ وَلَا تَقْصِيرَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} وَلَا خِلَافَ فِي وُجُوبِ هَذَا الرِّزْقِ وَالْكِسْوَةِ وقَوْله تَعَالَى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} بَلْ الْمَعْرُوفُ هُوَ الْوَاجِبُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنْ الْمُنْكَرِ} وَقَالَ: {يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ} فَذِكْرُ الْمَعْرُوفِ فِيمَا أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ الْوَصِيَّةِ لَا يَنْفِي وُجُوبَهَا بَلْ هُوَ يُؤَكِّدُ وُجُوبَهَا؛ إذْ كَانَ جَمِيعُ أَوَامِرِ اللَّهِ مَعْرُوفًا غَيْرَ مُنْكَرٍ.
وَمَعْلُومٌ أَيْضًا أَنَّ ضِدَّ الْمَعْرُوفِ هُوَ الْمُنْكَرُ، وَأَنَّ مَا لَيْسَ بِمَعْرُوفٍ هُوَ مُنْكَرٌ، وَالْمُنْكَرُ مَذْمُومٌ مَزْجُورٌ عَنْهُ، فَإِذًا الْمَعْرُوفُ وَاجِبٌ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: {حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} فَفِيهِ تَأْكِيدٌ لِإِيجَابِهَا؛ لِأَنَّ عَلَى النَّاسِ أَنْ يَكُونُوا مُتَّقِينَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ} وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ تَقْوَى اللَّهِ فَرْضٌ، فَلَمَّا جَعَلَ تَنْفِيذَ هَذِهِ الْوَصِيَّةِ مِنْ شَرَائِطِ التَّقْوَى فَقَدْ أَبَانَ عَنْ إيجَابِهَا.
وَأَمَّا تَخْصِيصُهُ الْمُتَّقِينَ بِالذِّكْرِ فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى نَفْيِ وُجُوبِهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ أَقَلَّ مَا فِيهِ اقْتِضَاءُ الْآيَةِ وُجُوبَهَا عَلَى الْمُتَّقِينَ، وَلَيْسَ فِيهَا نَفْيُهَا عَنْ غَيْرِ الْمُتَّقِينَ، كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ فِي قَوْلِهِ: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} نَفْيُ أَنْ يَكُونَ هُدًى لِغَيْرِهِمْ، وَإِذَا وَجَبَتْ عَلَى الْمُتَّقِينَ بِمُقْتَضَى الْآيَةِ وَجَبَ عَلَى غَيْرِهِمْ، وَفَائِدَةُ تَخْصِيصِهِ الْمُتَّقِينَ بِالذِّكْرِ أَنَّ فِعْلَ ذَلِكَ مِنْ تَقْوَى اللَّهِ، وَعَلَى النَّاسِ أَنْ يَكُونُوا كُلُّهُمْ مُتَّقِينَ، فَإِذًا عَلَيْهِمْ فِعْلُ ذَلِكَ.
وَدَلَالَةُ الْآيَةِ ظَاهِرَةٌ فِي إيجَابِهَا، وَتَأْكِيدِ فَرْضِهَا؛ لِأَنَّ قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ} مَعْنَاهُ فُرِضَ عَلَيْكُمْ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِيمَا سَلَفَ، ثُمَّ أَكَّدَ بِقَوْلِهِ: {بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} وَلَا شَيْءَ فِي أَلْفَاظِ الْوُجُوبِ آكَدُ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: هَذَا حَقٌّ عَلَيْكَ وَتَخْصِيصُهُ الْمُتَّقِينَ بِالذِّكْرِ عَلَى وَجْهِ التَّأْكِيدِ كَمَا بَيَّنَّاهُ آنِفًا، مَعَ اتِّفَاقِ أَهْلِ التَّفْسِيرِ مِنْ السَّلَفِ أَنَّهَا كَانَتْ وَاجِبَةً بِهَذِهِ الْآيَةِ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ وَاجِبَةً، وَهُوَ مَا حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ الْفَضْلِ بْنِ جِبْرِيلَ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَيُّوبَ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَحِلُ لِمُؤْمِنٍ يَبِيتُ ثَلَاثًا إلَّا وَوَصِيَّتُهُ عِنْدَهُ».
وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُوسَى قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَيُّوبُ قَالَ: سَمِعْتُ نَافِعًا عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ مَالٌ يُوصِي فِيهِ تَمُرُّ عَلَيْهِ لَيْلَتَانِ إلَّا وَوَصِيَّتُهُ عِنْدَهُ مَكْتُوبَةٌ».
وَقَدْ رَوَاهُ هِشَامُ بْنُ الْغَازِي عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا يَنْبَغِي لِمُسْلِمٍ أَنْ يَبِيتَ لَيْلَتَيْنِ إلَّا وَوَصِيَّتُهُ عِنْدَهُ مَكْتُوبَةٌ».
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَصِيَّةَ قَدْ كَانَتْ وَاجِبَةً. اهـ.

.قال ابن عاشور:

إن آية المواريت التي في سورة النساء نسخت هذه الآية نسخًا مجملًا فبينت ميراث كل قريب معين فلم يبق حقه موقوفًا على إيصَاء الميت له بل صار حقه ثابتًا معينًا رَضي الميت أم كره، فيكون تقرر حكم الوصية في أول الأمر استئناسًا لمشروعية فرائض الميراث، ولذلك صدر الله تعالى آية الفرائض بقوله: {يوصيكم الله في أولادكم} [النساء: 11] فجعلها وصية نفسه سبحانه إبطالًا للمنة التي كانت للموصي.
وبالفرائض نسخ وجوب الوصية الذي اقتضته هذه الآية وبقيت الوصية مندوبة بناء على أن الوجوب إذا نسخ بقي الندب وإلى هذا ذهب جمهور أهل النظر من العلماء، الحسن وقتادة والنخعي والشعبي ومالك وأبو حنيفة والأوزاعي والشافعي وأحمد وجابر بن زيد، ففي البخاري في تفسير سورة النساء عن جابر بن عبد الله قال: عادني النبي وأبو بكر في بني سَلِمَة ماشِيْين فوجدني النبي لا أعقل فدعا بماء فتوضأ منه ثم رش عليَّ فأفقت فقلت: ما تأمرني أن أَصنع في مالي يا رسول الله فنزلت: {يوصيكم الله في أولادكم} [النساء: 11] الآية. اهـ. فدل على أن آخر عهد بمشْروعية الوصايا سؤال جابر بن عبد الله، وفي البخاري عن ابن عباس كان المال وكانت الوصية للوالدين فنسخ الله من ذلك ما أحب الخ.
وقيل نسخت مشروعية الوصية فصارت ممنوعة قاله إبراهيم بن خُثَيْم وهو شذوذ وخلاف لما اشتهر في السنة إلاّ أن يريد بأَنها صارت ممنوعة للوارث.
وقيل: الآية مُحكَمَة لم تُنسخ والمقصود بها من أول الأمر الوصية لغير الوارث من الوالدين والأقربين مثل الأبوين الكافرين والعبْدين والأقارِب الذين لا ميراث لهم وبهذا قال الضحاك والحسن في رواية وطاووس واختاره الطبري، والأصح هو الأول.
ثم القائلون ببقاء حكم الوصية بعد النسخ منهم من قال: إنها بقيت مفروضة للأقربين الذين لا يرثون وهذا قول الحسن وطاووس والضحاك والطبري لأنهم قالوا: هي غير منسوخة، وقال به ممن قال إنها منسوخة ابنُ عباس ومسروق ومسلم بن يسار والعلاء بن زياد، ومنهم من قال: بقيت مندوبة للأقربين وغيرهم وهذا قول الجمهور إلاّ أنه إذا كان أقاربه في حاجة ولم يوص لهم فبئس ما صنع ولا تبطل الوصية، وقيل تختص بالقرابة فلو أوصى لغيرهم بطلت وترد على أقاربه قاله جابر بن زيد والشعبي وإسحاقُ بن راهويه والحسن البصري، والذي عليه قول من تعتمد أقوالهم أن الوصية لغير الوارث إذا لم يخش بتركها ضياع حق أحد عند الموصِي مطلوبة، وأنها مترددة بين الوجوب والسنة المؤكدة لحديث: «لا يحل لرجل يؤمن بالله واليوم الآخر له مال يوصي فيه يبيت ليلتين إلاّ ووصيته مكتوبة عند رأسه»، إذا كان هذا الحديث قد قاله النبي صلى الله عليه وسلم بعد مشروعية الفرائض فإن كان قبلَ ذلك كان بيانًا لآية الوصية وتحريضًا عليها، ولم يزل المسلمون يرون الوصية في المال حقًا شرعيًا، وفي صحيح البخاري عن طلحة بن مصَرِّف قال: سألت عبدَ الله بن أبي أَوْفَى هل كان النبي أوصى فقال: لا، فقلت: كيف كُتبتْ على الناس الوصيةُ ولم يوص؟ قال: أوصى بكتاب الله. اهـ، يريد أن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان لا يورث فكذلك لا يوصي بماله ولكنه أوصى بما يعود على المسلمين بالتمسك بكتاب الإسلام، وقد كان من عادة المسلمين أن يقولوا للمريض إذا خيف عليه الموت أن يقولوا له أَوْصِ.
وقد اتفق علماء الإسلام على أن الوصية لا تكون لوارث لما رواه أصحاب السنن عن عمر بن خارجة وما رواه أبو داود والترمذي عن أبي أُمَامَة كلاهما يقول سمعت النبي قال: «إن الله أعطى كل ذي حق حقه أَلاَ لا وصية لوارث» وذلك في حجة الوداع، فخُص بذلك عمومُ الوالدين وعمومُ الأقربين وهذا التخصيص نسخ، لأنه وقع بعد العمل بالعام وهو وإن كان خبر آحاد فقد اعتُبر من قبيل المتواتر، لأنه سمعه الكافة وتلقاه علماء الأمة بالقبول.
والجمهور على أن الوصية بأكثر من الثلث باطلة للحديث المشهور عن سعد بن أبي وقاص أنه مرض فعاده النبي صلى الله عليه وسلم فاستأذنه في أن يوصي بجميع ماله فمنعه إلى أن قال له «الثلثُ والثلثُ كثير إِنَّك أَنْ تَدَعَ ورثَتك أَغنياءَ خيرٌ من أَنْ تَدَعَهم عالةً يَتكفَّفُون الناسَ» وقال أبو حنيفة: إن لم يكن للموصي ورثة ولو عصبة دون بيت المال جاز للموصي أن يوصي بجميع ماله ومضَى ذلك أخذًا بالإيماء إلى العلة في قوله: «إِنك أن تدع ورثَتك أغنياء خير». الخ. وقال: إن بيت المال جامعٌ لا عاصب وَرُوي أيضًا عن علي وابن عباس ومسروق وإسحاق بن راهويه، واختُلف في إمضائها للوارث إذا أجازها بقية الورثة ومذهب العلماء من أهل الأمصار أنها إذا أجازها الوارث مضت.
هذا وقد اتفق المسلمون على أن الله تعالى عين كيفية قسمة تركة الميت بآية المواريث، وأن آية الوصية المذكورة هنا صارت بعد ذلك غيرَ مراد منها ظاهرها، فالقائلون بأنها محكمة قالوا: بقيت الوصية لغير الوارث والوصيةُ للوارث بما زاد على نصيبه من الميراث فلا نسخ بين الآيتين.
والقائلون بالنسخ يقول منهم مَنْ يرون الوصية لم تزل مفروضة لغير الوارث: إِن آية المواريث نسَخَت الاختيار في الموصَى له والإطلاق في المقدار الموصَى به، ومَن يرى منهم الوصية قد نسخ وجوبها وصارت مندوبة يقولون: إن آية المواريث نَسَخت هذه الآية كلها فأصبحت الوصية المشروعة بهذه الآية منسوخة بآية المواريث للإِجماع على أن آية المواريث نَسخت عموم الوَالدين والأقربين الوَارثين، ونسخت الإطلاق الذي في لفظ الوصية والتخصيصُ بعد العمل بالعام، والتقييدُ بعدَ العمل بالمطلق كلاهما نَسْخٌ، وإن كان لفظ آية المواريث لا يدل على ما يناقض آية الوصية، لاحتمالها أن يكون الميراث بعد إعطاء الوصايا أو عند عدم الوصية بل ظاهرها ذلك لقوله: {من بعد وصية} [النساء: 11]، وإن كان الحديثان الواردان في ذلك آحادًا لا يصلحان لنسخ القرآن عند من لا يرون نسخ القرآن بخبر الآحاد، فقد ثبت حكم جديد للوصية وهو الندب أو الوجوب على الخلاف في غير الوارث وفي الثلث بدليل الإجماع المستند للأحاديث وفعل الصحابة، ولمَّا ثبت حكم جديد للوصية فهو حكم غير مأخوذ من الآية المنسوخة بل هو حكم مستند للإِجماع، هذا تقرير أصل استنباط العلماء في هذه المسألة وفيه ما يدفع عن الناظر إشكالات كثيرة للمفسرين والفقهاء في تقرير كيفية النسخ. اهـ.